أردت أن أبصر - بورغيلد دال
أردت أن أبصر - بورغيلد دال
قدم د. ساجد العبدلي كتاباً جديداً من ترجمته يقتفي السيرة الذاتية للأكاديمية بورغيلد دال التي تعتبر نموذجاً يحتذى لأنها قهرت الإعاقة وتغلبت على كل الصعاب التي تقوّض نجاحها وتدفعها إلى الفشل أو الانكفاء على الذات.
ويترجم العبدلي هذه السيرة للأكاديمية الأميركية بور غيلد دال (1890م - 1984) وهي كاتبة أميركية لوالدين نرويجيين، ولدت بعين واحدة، أصدرت سيرتها باللغة الإنكليزية عام 1947م، حيث تروي تفاصيل مؤثرة من حياتها منذ الطفولة مروراً بمرحلة الشباب والعمل والانخراط ضمن مهنة التدريس، ثم مراحل أخرى مضيئة في حياتها رغم العتمة التي كانت تسدل ستارها على حياتها.
محل شفقة الآخرين
يسلط العبدلي الضوء في التقديم للإصدار على قوة الشكيمة لدى بورغيلد دال وعزيمتها التي تناطح الجبال، مشيراً إلى أنها كانت تفضل تجرع مرارة الألم على أن تكون في قائمة الضعفاء الذين يثيرون شفقة الآخرين، ويقول ضمن هذا الجانب: «وُلِدَت بعين واحدة مليئة بالندبات الغائرة، فكانت شبه ضريرة لمدة نصف قرن من عمرها، وكي تتمكن من الرؤية طوال تلك السنين كان عليها أن تستخدم عينها اليسرى فتحرِفَها إلى أقصى اليسار حيث فتحة صغيرة غائرة في جفنها يمكن للضوء أن يمر عبرها، إلا أنها ورغم هذا الألم كله رفضت أن تكون محل شفقة الآخرين وأن ينظروا إليها على أنها معاقة أو أدنى من غيرها، ولذلك كانت تصر على المشاركة في كل الأنشطة الحياتية، وكانت تنجح في عمل كل شيء في الغالب».
ويسرد العبدلي ملامح عن قوة شخصيتها رغم صغر عمرها، ويوضح: «عندما كانت طفلة كانت تصر على أن تلعب «الحجلة» مع الأطفال، ولأنها لم تكن لتستطيع رؤية العلامات على الأرض، فقد كانت تذهب إلى ساحة اللعب بعد عودة الأطفال إلى منازلهم فتلتصق بأرضية الملعب وتزحف على امتداده لتتمكن من رؤية العلامات التي وضعوها أثناء لعبهم حتى حفظتها جميعاً، وسرعان ما تمكنت من مشاركتهم لتصبح خبيرة في اللعبة تتفوق عليهم في بعض المرات.
كانت تقرأ الكتب وتدرسها في المنزل، فتلصق الصفحات بوجهها إلى درجة أن رموش عينها الوحيدة كانت تحتك بسطح الورقة حتى تتمكن من رؤية الحروف، ورغم معارضة المعلمين واعتقادهم أن إعاقتها أكبر من إمكان نجاحها في مراحل التعليم النظامي، فإنها تمكنت من إكمال جميع مراحل دراستها فدخلت الجامعة وحصلت على البكالوريوس والماجستير، وتدرجت من ثم وصولاً إلى الالتحاق بسلك التدريس حيث صارت أستاذة جامعية للصحافة والأدب، تلقي محاضراتها في الجامعة والنوادي الثقافية، وتدلي بأحاديثها في الإذاعة عن الأدب والكتب».
نقطة تحول
لتعريف القارئ بسماتها وسلوكها يستقطع د. العبدلي مما كتبت ذات يوم: «كان في ذهني دائماً شعورٌ كامنٌ بالخوف من العمى التام؛ وللتغلب على هذا كنت أعيش دائماً حياةً مرحةً مبتهجةً في كل لحظة».
ويمضي العبدلي ليضيء على نقطة تحول في مشوارها، ويقول عن تلك المرحلة: «عندما بلغت الثانية والخمسين كان الطب تطوَّر بحيث تمكن الأطباء من مساعدتها شيئاً ما، فأجريت لها جراحة في عينها الوحيدة وصار بإمكانها أن ترى أفضل بمقدار أربعين مرة عن حالها طوال سنواتها الخمسين الماضية، وعندئذ انكشف أمامها عالمٌ مثيرٌ من الجمال والروعة والبهجة التي لم تعرفها من ذي قبل. صارت تجد حتى في غسيل الأطباق شيئاً مبهراً مثيراً، فكتبت تقول في أحد كتبها: «بدأت ألعب برغوة الصابون، وألاحق الفقاعات الصغيرة فألتقطها لأحملها أمام الضوء كي أشاهد ألوان أقواس قزح صغيرة فيها، وأمضي الوقت أراقب أجنحة العصافير الخفاقة عبر النافذة، وهي تطير خلال الثلج الكثيف المتساقط»... وختمت قائلة: «يا إلهنا الذي في السماء، الشكر لك، الشكر لك».
ويختتم العبدلي حديثه عن بورغيلد دال: «سيرة حياة باهرة وفيها كثير من العبر، فهلا تذكر الواحد فينا أن يشكر ربه على كل شيء قد منحه إياه بالفعل؟ هلا تذكر الواحد فينا أن يحمد الله على نعمة البصر وعلى نعمة التمكن من مشاهدة كل تلك الأشياء الرائعة التي تحيط به طوال الوقت في هذا العالم المليء بالجمال؟ تسعون في المئة من حياة المرء تسير غالباً على ما يرام، وعشرة في المئة هي المتعثرة، ومع ذلك فإنه يصرف عقله وتفكيره ومزاجه ونفسه وسائر روحه في الانشغال بهذه العشرة في المئة متناسياً ذلك الجزء الجميل الأعظم من حياته».
المصدر: جريدة الجريدة